فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: لطالما روّجت "إسرائيل" نفسها على أنها رائدة الصناعات التكنولوجية ذات الطابعين الأمني والعسكري، ووصل الحد إلى اعتبار أن السيرة الذاتية لجنودها الذين يخدمون في الوحدات التكنولوجية التابعة للجيش كافية لدمجهم في العمل في أهم الشركات التكنولوجية العالمية، وهو ما ساهم في وصول أجهزة الأمن الإسرائيلية لكبريات الشركات التكنولوجية العالمية وما يترتب على ذلك من مزايا استخباراتية وأمنية، وكذلك توفير بعض مصادر الدعم المالي للجيش من خلال بعض الجمعيات التي تضم رؤوس أموال كانوا قد خدموا في الجيش مثل "جمعية أصدقاء الجيش".
ارتبطت سمعة أفراد الجيش الذين سبق لهم العمل في الوحدات التكنولوجية بسمعة المؤسسة الأوسع، وهو ما مكنهم من الاندماج كما أشرنا في قطاعات تكنولوجية عالمية. وبالتوازي مع ذلك وبصورة أعم وأشمل وأهم، كان الاحتلال الإسرائيلي يستفيد من هذه السمعة لكي يبيع خدمات تكنولوجية كما في حالة تطبيقات التجسس ومن بينها "بيغاسوس" بهدف الحصول على الأموال والمواقف، وقد كشفت تقارير غربية أن "إسرائيل" تستخدم بعض الخدمات التكنولوجية لخلق علاقات سرية مع أنظمة لا تربطها بها علاقات دبلوماسية رسمية كما السعودية، وأن هذه الخدمات مكّنت "إسرائيل" من بناء علاقات وتحالفات أمنية مع أنظمة ومنظمات.
صناعة التكنولوجيا الأمنية والمزايا الاقتصادية
في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، طرأت تغييرات على اهتمامات جيش الاحتلال الإسرائيلي نتيجة هجرة آلاف المهندسين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تمثلت في زيادة الاهتمام بالصناعات التكنولوجية للأغراض العسكرية والاستخباراتية، وهو ما خلق تأثيرات في القطاع الخاص تمثلت في نمو الشركات الناشئة في صناعة التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية، والتي وصل عددها في عام 2022 إلى 9558 بحسب مؤسسة أبحاث البيانات والأفكار الإسرائيلية. حيث وفر سوق العمل الإسرائيلي في مجال التكنولوجيا الفائقة مزايا للإسرائيليين المولودين في "إسرائيل"، بسبب شبكاتهم الاجتماعية المحلية التي نشأت في الخدمة العسكرية
ومن الملاحظ في ظاهرة الشركات التكنولوجية الناشئة الآخذة بالاتساع إسرائيليا، وجود تمثيل عالٍ لخريجي الوحدات الاستخباراتية التكنولوجية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وينطبق ذلك على الشركات العالمية التي تستقطب إسرائيليين للعمل فيها. في الحالة الإسرائيلية، ولا سيما في صناعة التكنولوجيا الفائقة، بدا واضحا أن الخدمة العسكرية في الوحدات التكنولوجية (الاستخباراتية) تضمن مستقبلا عمليا بدخل مرتفع في شركات التكنولوجيا، فمثلا تشير بيانات شركة "Ethosia" التي تعمل كوسيط للتوظيف في شركات التكنولوجيا، في تقرير لها نشر عام 2020 أن 60% من الشركات أحادية القرن في "إسرائيل" أسسها خريجو وحدات تكنولوجية استخباراتية في الجيش. وكذلك من الشائع رؤية إعلانات الوظائف في التكنولوجيا الفائقة تحت متطلبات "شهادة في علوم الكمبيوتر أو خريج وحدة تكنولوجية (استخباراتية)". في بعض الحالات يكون العمل في وحدة استخباراتية هو المتطلب الوحيد.
وقد ساهمت المزايا التي تحققها الوحدات التكنولوجية في الجيش في تكثيف الدعاية الإسرائيلية حول دور التكنولوجيا في حماية "إسرائيل"، ودورها في الاقتصاد، فمثلا يشير رئيس أركان جيش الاحتلال السابق أفيف كوخافي في محاضرته في جامعة رايخمان، إلى مساهمة الجيش في الاقتصاد من خلال الصناعات التكنولوجية والتدريب المهني، معتبرا أن الجيش أصبح بمثابة مشروع توظيف ومساهم في الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد الأفراد.
أكتوبر والتحديات
تكشف تقارير إسرائيلية عدة أنه في الأشهر الأولى من معركة طوفان الأقصى تضرر المبيعات التكنولوجية الإسرائيلية بنسبة 40%، ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها؛ عدم قدرة المستثمرين الأجانب القدوم للأراضي المحتلة لعقد اجتماعات أو معاينة خدمات معينة، فيما أن السبب الأهم والأبرز هو تضرر سمعة الصناعات التكنولوجية العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية في مجالات عدة.
لقد حولت معركة طوفان الأقصى الأنظمة الإلكترونية الدفاعية التي كانت "إسرائيل" تتغنى بها إلى أضحوكة. فمثلا، الجدار الأمني كان حاملا لأهم الابتكارات الإلكترونية الإسرائيلية في مجال الكشف والإنذار وحتى الحماية ومنع الاختراق، وقد استفادت الصناعات العسكرية الإسرائيلية في هذا المجال من خلال بيع أنظمة حماية وكشف مبكر لعدد من دول العالم التي تعاني من هجمات مسلحة على حدودها أو تهريب مخدرات أو مهاجرين، كما في حالة الولايات المتحدة والمكسيك. لقد أثبتت اللحظات الأولى من "الطوفان" فشل هذه الأنظمة في التعامل مع عملية مسلحة منظمة كالتي نفذتها المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام.
أيضا، الصناعات التكنولوجية التجسسية هي الأخرى تضررت سمعتها، خاصة وأن أجهزة الأمن الإسرائيلية عجزت تماما عن التقاط أي إشارة لنوايا حركة حماس في تنفيذ عملية "طوفان الأقصى". هذا يعني أن الدول التي قد تعتمد على الصناعات التكنولوجية التجسسية الإسرائيلية لحماية أنظمتها أو حتى شعوبها من الهجمات، سوف تفقد الثقة في هذه الصناعات، فإذا كانت "أم هذه الصناعات" قد عجزت عن التعامل مع تكتيكات أمنية وتكنولوجية لفصيل فلسطيني، فما هو حال المشترين لهذه الخدمات؟!، علما أن "إسرائيل" تحتفظ بآخر الابتكارات للاستخدام الذاتي وتبيع المستهلك من هذه الصناعات.
الأضرار ستطال كذلك اقتصاد الدولة والأفراد لدى الاحتلال، إذ أن تضرر هذا النوع من الصناعات سيؤثر على الاتفاقيات المستقبلية للشركات الإسرائيلية وعلى استثمار هذه الشركات. فلم تعد الخدمات التي تقدمها "إسرائيل" في هذا المجال بنفس القيمة، ولم يعد الإقبال على هذه الخدمات كما قبل، وكذلك لم يعد للجندي الإسرائيلي العامل في الوحدات التكنولوجية ذات الميزة في السيرة الذاتية التي تمكنه من الدخول للشركات العالمية بثقة. لقد شكّل أكتوبر 2023 صفعة مهمة لقطاع اقتصادي مهم لدى الاحتلال، سوف تتضح آثاره أكثر في البيانات التي تنشر في السنوات القادمة حول مبيعات التكنولوجية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.